ان المتأمل في شخصية الرسول الأعظم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ينتابه الشعور بالحيرة عند محاولته تقديم صورة جامعة تستوعب آفاق الحكمة والعبقرية، التي اشتملت عليها هذه الشخصية النبوية الخالدة في قلوب وعقول مئات الملايين من المؤمنين المحبين, لم تقتصر محبة الرسول الكريم على أتباعه، وإنما امتدت إلى غير المسلمين وفي هذا السياق تقول المستشرقة الألمانية «آنا ماري شيمل»: «لا تلوموني على حبي لرسول الإسلام، فحبي وشغفي بالإسلام ورسوله بلا حدود».
ما زال أمامنا الكثير لنفعله من موقع الاتباع لنهج المصطفى، خاصة في الدعوة لقيم الأخوة والائتلاف التي غرسها الإسلام في أرواحنا وأفئدتنا وتراثنا، يقول تعالى في محكم تنزيله: «.. قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى..»، والمودة تبدأ من محبة أهل البيت والصحابة ثم تمتد في دوائر متصاعدة إلى مجتمعاتنا ومحيطنا الإنساني والطبيعي.
إن قيمة المودة الإنسانية تتنافى تماما مع الإهمال المتعمد و«المغالاة في اللامبالاة» في عصرنا الراهن، فهي تذكرنا بواجبنا في أوقات المحن والكوارث الطبيعية التي تنال من إخوتنا في المغرب وليبيا، وقبلهما في تركيا وسوريا، أو غيرهما من دول العالم، ولعل المنطلق الأهم لمواجهة هذه التحديات يتمثل بالإيمان بالأخوة الإنسانية وتمكين الإنسان وحفظ كرامته، وأشير هنا إلى أهمية وجود نظام عالمي إنساني، والذي كنت قد دعوت إليه باسم الأردن في ثمانينيات القرن الماضي، في سبيل تعزيز كرامة الإنسان، خاصّة أن أكثر ضحايا الكوارث والنزاعات هم من المستضعفين والمهمشين، ومن أهم الأشكال العملية التي تعبّر عن الأخوة الإنسانية ما جاء في تعاليم الزكاة في الإسلام فهي تعزز الروح الجماعية وتزيد من استباق الخيرات، وهنا أذكِّر باللقاء الذي عقدناه في عمان، العام الماضي 2022 بعنوان «عالمية الزكاة: الأبعاد والتمثلات المؤسسية ـ نحو مؤسسة عالمية للزكاة والتكافل الإنساني»، وضرورة النظر إلى الزكاة كمفتاح لبناء عتبة التنمية للوصول إلى مفهوم الخيرية الفعالة التي لا تستثنى أحدا، وتقوم على انتقال الأفكار من الأنا إلى «النحنوية»، وأود أن أشير كذلك إلى النموذج الذي تمثله المفوضية السامية للاجئين والتي تمكنت من الحصول على أكثر من 15 فتوى من دور الإفتاء حول العالم تجيز دفع الزكاة إلى صندوق الهيئة لمساعدة اللاجئين، كان نتيجتها أن صندوق الهيئة تلقى حوالى 60% من تمويله من مصادر إسلامية: 21٫3 مليون دولار من الزكاة، و16٫7 مليون دولار من الصدقة.
وإذا تحدثنا عن المودة في سياقها الثقافي، فإنني أشير إلى أهمية وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة تواصل عالمية للتقارب والتعارف بين الناس، طالما بقيت تُستخدم ضمن إطار أخلاقي قويم يقتدى بالخُلُقِ النبوي الكريم، وهنا أقول إن استفزاز مشاعر المسلمين من خلال الإساءات المتعمدة والمتواصلة لصورة النبي، وحرق المصحف الشريف، ولا ننسى كذلك حرق المسجد الأقصى على يد المتطرف دينيس مايكل عام 1969، كل ذلك إنما يؤكد عمق الأزمة التي يعيشها الفكر الغربي الذي يفتقر إلى الحرية المسؤولة، وفي مواجهة هذه الإساءات علينا التعامل مع المشكلة من خلال المؤسسات الإسلامية المنظَّمة، والقانون الإنساني العالمي الذي ينسجم مع الشريعة الإسلامية بمضمونها الأخلاقي الجامع، وتقديم الحجج العقلية التي تعبّر عن الإسلام ورسالته الإنسانية العالمية. وأن نبتعد عن العنف وردود الأفعال ومقابلة الكراهية بمثلها، فالدفاع عن كتاب الله وصورة رسوله الكريم لا ينفصل عن قيمة الرحمة التي تمثل المختصر الشريف لشخصية الرسول، والتي هي مصدر كل سماحة وائتلاف وحسن خُلق، كما قال الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..»، (آل عمران:159)، والرَّحمةُ تشمل المودة واللُّطْف والرَّأفة والشفقة والعمل لخدمة الإنسان، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
ومن جوانب العبقرية في شخصية النبي أنه كان مجتهدا بالإضافة لكونه مبلِّغا لحقائق الإيمان، كما كان يدعو إلى الاستفادة من خبرات السابقين وتجاربهم وإقرار فضلهم ليعلِّمنا أن المجتمع المسلم لا ينفصل عن محيطه الإنسانى، وإنما يستثمر أفضل مخرجاته وخبراته.
كما نستحضر مفهوم الشورى سواء كممارسة فردية أونهج جماعى لإقامة الاجتهاد المؤسسى الذى أمر به الله رسوله والمؤمنين: «وشاورهم فى الأمر»، ومن متطلبات نجاح الشورى تحديد الأولويات وعدم الخلط بين الأصول والفروع والدخول فى قضايا هامشية من شأنها أن تبعدنا عن مشكلاتنا الحقيقية.
لا نجد دينا يؤاخى بين الأمم والشعوب على المشتركات الأخلاقية والوجدانية، كما نجد ذلك فى تعاليم الإسلام، ويكفينا هنا قوله عليه الصلاة والسلام: «يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِد ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمر على أسْود ولا لأسود على أحمر إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ».
وعلى المستوى العالمى فإن نظرة الإسلام للعلاقة بين الإنسان والأرض تقوم على أربعة مفاهيم، الأمانة، والاستخلاف، والتسخير، والإعمار، فالإنسان مستأمن ومستخلف فى الأرض التى سخّرها الله له وجعله سيدا عليها ومسؤولاً عن صلاحها وعمارتها، ويربط القرآن بين مهمة الإنسان على الأرض وبين علاقته بالله من خلال مفهوم العبادة الذى يشمل كل نواحى السلوك البشرى، ويهدف إلى بلوغ محبة الله وإقامة الحياة الطيبة وتحقيق العدالة دون تمييز بين مواطن ولاجئ، أو بين أقلية وأغلبية.
ويدرك من يتدبر القرآن أن الإفساد فى الأرض يعد تقويضا عمليا لمعانى الاستخلاف والإعمار والتسخير. واليوم نجد أن الفساد الذى حذّر منه القرآن قد استشرى بشكل لا سابق له من خلال الكوارث والاختلالات البيئية التى تواجه كوكبنا والتى أصبحت تمثل خطرا على وجودنا البشرى.
والواقع أن التحديات التى نواجهها اليوم تبدأ من عمل الإنسان ضد أخيه الإنسان، والإنسان ضد عوامل الطبيعة من تصحر وجفاف واقتلاع الأشجار، والكوارث التى من صنع الإنسان كلها تَتطلب القبول بأن أهداف الاستدامة نفسها قد اختلت وتعثرت بسبب الاختلال الجغرافى فوق الأرض وتحتها، وقد ذكرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة فى عام 2021 أن «عدد الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات وموجات الحر، الناتجة عن تغير المناخ زاد خمس مرات على مدى الخمسين عاما الماضية»، ونتيجة لاستمرار التلوث أصبحت الأرض تقترب بسرعة من «نقطة اللاعودة»، فهل آن الأوان لأن نعمل سويا لإيقاف عملية التدمير التى تتعرض لها الأرض، وهل ننجح فى «إماطة الأذى» عن الأرض والشروع فى إنقاذها؟ وهل يمكن لمناهجنا التعليمية أن تعمق فى أبنائنا مفهوم «المؤاخاة مع الطبيعة» والكفّ عن الطغيان والإسراف فى التعامل مع الموارد الطبيعية؟ وهل يمكن لمحيطنا البيئى أن ينال حقه من بعد أن أخذنا منه كل ما نريد وألقينا فيه أسوأ ما عملته أيدينا؟ هل يمكن أن نغير من سلوكنا وندرك أن للكائنات جميعا الحق فى الاحترام والحماية؟.
إن كل هذه التطلعات والتساؤلات يمكن أن تجد إجابة وتصبح واقعا عندما ندرك المعنى الأشمل والأعمق للرسالة الخاتمة التى جاء بها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام.