بقلم: الدكتورة تقى الرزوق – أستاذة علم النفس ومناهج البحث
في عالم يسير بإيقاع سريع، تُفرض علينا أحيانًا فكرة أن الألم له “مدة صلاحية”. البعض يتوقع منك أن تتعافى في غضون أسابيع، آخرون يمنحونك أشهرًا، لكن الحقيقة هي أن القلوب لا تتعافى بمواعيد مسبقة، والصدمة النفسية لا تخضع لتقويم.
الحديث عن الصدمة لم يعد حكرًا على العيادات، بل أصبح جزءًا من الحوارات العامة، وحتى المشاهير صاروا يشاركون تجاربهم بعد سنوات من وقوعها.
ماريا شرايفر، على سبيل المثال، لم تكتب عن خيانة زوجها السابق إلا بعد أكثر من عقد، في كتاب شاعري وحميم.
إي. إيه. هانكس استحضرت طفولتها القاسية في مذكرات حديثة، رغم أن الجرح قديم. كيلسي غرامر يخرج عن صمته بعد خمسين عامًا ليروي تفاصيل مقتل شقيقته، وليزا رينا تتحدث لأول مرة عن اعتداء مروّع تعرضت له والدتها في ستينيات القرن الماضي.
كل هذه القصص تقول شيئًا واحدًا بوضوح: الزمن لا يمحو الصدمة… بل يُهدئها، فقط إن كنا صادقين في مواجهتها.
لماذا لا نعود كما كنا؟
الكثير منا يتساءل بعد مروره بتجربة قاسية: “متى يفترض أن أعود كما كنت؟”
لكن ربما الإجابة الأصعب والأكثر صدقًا هي: لن تعود كما كنت… ولكن يمكنك أن تصبح شخصًا جديدًا، أعمق، وأقوى.
أحد المرضى الذين تعاملت معهم فقد شقيقته التوأم في حادث مفاجئ. بعد ستة أشهر، سألتني في جلسة:
“هل يجب أن أكون قد تجاوزت الحزن؟”
كان السؤال نابعًا من ضغط خارجي، تحديدًا من مشرفتها في العمل — التي كانت تعمل في مجال الصحة النفسية.
إذا كان أهل الاختصاص يختزلون الألم في مدة زمنية، فماذا عن المجتمع؟ عن العائلة؟ عن الأصدقاء؟
الحزن لا يتقيد بوقت.
الصدمة قد تهدأ، تختبئ، تتظاهر بأنها اختفت، لكنها تبقى كامنة في الداخل، تنتظر لحظة لتظهر من جديد — في علاقة، في موقف، أو حتى في حلم مفاجئ.
عندما يكون الفقد… فقدان حبيب
من أقسى التجارب التي يمكن أن نمر بها، فقدان الحبيب — سواء بانفصال أو موت.
الحب الحقيقي ليس بالضرورة أن يُقاس بالسنين.
أحيانًا، نلتقي شخصًا في لحظة عابرة، لكنه يلمس فينا شيئًا عميقًا… شيئًا لا يلمسه أحد. نشعر وكأننا وجدنا في هذا الشخص مرآتنا، روحنـا، وطريقًا جديدًا لأنفسنا.
ورغم قصر المدة، يكون الفقد موجعًا، صادمًا، وكأن العالم فقد لونه.
في حالات مثل هذه، يُقال لنا أحيانًا: “لقد كنتم معًا لشهور فقط، لماذا كل هذا الحزن؟”
لكن لا أحد يستطيع أن يقدّر عمق ما نحسه، أو شكل الروابط التي تشكلت بصمت بين قلبين.
أعرف فتاة انفصلت عن حبيبها بعد علاقة قصيرة لكنها قوية، وقالت:
“هو ما كان سنين في حياتي… لكنه كان حياتي كلها في وقت قصير.”
وأعرف شابًا فقد حبيبته فجأة، أخبرني:
“من يوم غابت، كل شيء صار باهت… حتى ضحكتي.”
الفقد لا يُقاس بالمدة، بل بالتأثير.
وكل من فقد حبيبًا، يعرف كم من الوقت يحتاج ليعيد ترتيب قلبه من جديد.
لا “تتجاوزها”… بل تعلّم أن تعيش معها
الصدمة لا تُنسى، لكنها تصبح جزءًا منّا.
قد لا نشفى منها تمامًا، لكننا نتعلم كيف نعيش بها، ونتقدم رغم ثقلها.
عملت مع زوجين كانا يمران بأزمة بعد خيانة زوجية. سألني الزوج: “إلى متى سأظل أعتذر؟”
قلت له: “إلى أن تشعر زوجتك أنك لا تكتفي بالندم، بل أنك تشاركها الألم، وتشعر بعمق ما مرت به. الاعتذار ليس كلمات، بل جسر لإعادة بناء الثقة.”
أين تبدأ رحلة الشفاء؟
الخطوة الأولى نحو الشفاء ليست النسيان، بل التعبير.
اكتب، تحدث، ابكِ، شارك، خذ جلسة علاج، أو تحدث مع صديق تثق به… المهم أن تفتح الباب لما بداخلك.
المشاعر المدفونة لا تختفي، بل تتحول إلى جدران بيننا وبين الحياة.
وقد يكون أقسى ما في الصدمة هو العار أو الخجل المرتبط بها. كثيرون يختارون الصمت خوفًا من أن يُحكم عليهم، لكن الحديث هو ما يحررنا، لا يُضعفنا.
وإذا قوبلت برد بارد أو تعليق مؤذٍ من أحدهم، تذكّر أن هذا لا يعكس ضعفك… بل ضيق أفقهم.
ختامًا: لا تبحث عن “النهاية” بل عن بداية جديدة
التعافي لا يعني أن تُمحي التجربة، بل أن تتصالح معها.
أن تقول: “نعم، مررت بألم كبير، لكنه لن يمنعني من عيش بقية حياتي.”
ستظل تتذكر، لكن الذاكرة ستتحول من جرح إلى ندبة… علامة على أنك قاومت.
وسواء بدأت رحلتك اليوم، أو بعد سنوات، فكل خطوة نحو التعبير، والمصالحة، والقبول… هي خطوة نحو النور.
ولا وقت أفضل من الآن.