البوابة الاخباري
بقلم: د. تقى الرزوق – أستاذة علم النفس ومناهج البحث
هل شعرت يومًا بأنك اكتفيت من المناسبة بعد وقت قصير من بدايتها؟
تأتيك لحظة مباغتة في منتصف الحفل أو اللقاء، تقول فيها لنفسك:
“كان جميلًا… لكن أعتقد أنني جاهز للمغادرة.”
قد يُنظر لهذا الشعور على أنه نوع من الانطواء، أو قلة الصبر، أو حتى الملل،
لكن علم النفس اليوم يُقدّم لنا تفسيرًا مختلفًا تمامًا —
إنه ما يسمى بـ “كفاءة التجربة” (Experience Efficiency).
ما معنى “كفاءة التجربة”؟
كفاءة التجربة هي ميل بعض الأشخاص إلى التقاط جوهر اللحظة بسرعة،
والاستمتاع بالزخم الأولي لأي تجربة، ثم الشعور بالاكتفاء المبكر منها.
سواء كنت في حفل موسيقي، عشاء اجتماعي، أو عرض مسرحي،
قد تجد نفسك تستمتع بالفعل، لكنك لا ترغب بالبقاء حتى النهاية.
ليس لأن التجربة سيئة، بل لأنك حصلت على ما تبحث عنه… بسرعة.
هذا النوع من الأشخاص لا يُعاني من قلة الحضور الذهني،
بل يُمارس شكلاً فريدًا من “التركيز المكثف”.
يدخل التجربة بانتباه، يستخرج جوهرها، ثم يشعر بأن الاستمرار قد يكون عبئًا لا قيمة مضافة له.
لماذا نكتفي مبكرًا؟ التفسير النفسي
بحسب أبحاث علم النفس المعرفي والتحفيزي، هناك عدة أسباب قد تفسر هذا السلوك:
- العائد العاطفي ينخفض مع الوقت:
دراسات “التكيف المتعة” (Hedonic Adaptation) تبيّن أن الشعور بالسعادة بعد تجربة ممتعة
يعود إلى مستواه الطبيعي بسرعة.
لذا، اللحظات الأولى هي الأعلى في الأثر العاطفي،
وعند انخفاض هذا الأثر، يبحث الشخص عن الانسحاب قبل أن تتحول المتعة إلى ملل. - العبء المعرفي والتشبع الحسي:
بعض الأشخاص، خاصة ممن يعالجون المعلومات بعمق،
يصلون سريعًا إلى حالة من الاكتفاء الحسي والعقلي.
بعد امتصاص المشهد الاجتماعي أو البصري، تبدأ أدمغتهم بالبحث عن “مخرج”. - الحساسية للزمن والفرص البديلة:
لدى بعض الأفراد وعي عالٍ بقيمة الوقت،
ويرون أن البقاء في تجربة بدأت بالتراجع هو خسارة لفرص أخرى —
قد تكون الراحة، التأمل، أو نشاط آخر أكثر توافقًا مع مزاجهم الداخلي. - تجربة مكثفة… لا طويلة
الأشخاص الذين يتمتعون بـ”كفاءة التجربة” لا يبحثون عن الطول، بل عن العمق.
هم غالبًا منفتحون على الجديد، يعشقون الجمال والمفارقة،
ويحبّذون الانتقال من تجربة إلى أخرى بدلاً من الغوص في واحدة لفترة طويلة.
وهنا تظهر المفارقة النفسية:
قد تكون لحظة واحدة “حية” ومليئة بالمعنى، أصدق من ساعات باهتة من التواجد الإجباري.
إنهم لا ينسحبون لأنهم لا يستمتعون، بل لأنهم يشعرون أن اللحظة الحقيقية قد انتهت…
وأن البقاء بعدها، ببساطة، تكرار.
الختام الذكي: تطبيق “قاعدة الذروة والنهاية”
أحد أشهر مفاهيم علم النفس السلوكي هو “قاعدة الذروة والنهاية” لعالم النفس دانيال كانيمان،
والتي تقول إننا لا نتذكر التجربة كاملة، بل نحتفظ بذروتها ونهايتها فقط.
من هنا، يختار البعض الرحيل في لحظة التألق،
للحفاظ على ذاكرة جميلة وواضحة، لا تفسدها نهاية باهتة أو ضياع وقت في لاشيء.
لا تقلق… أنت لست غريبًا
إذا كنت ممن يحبون المغادرة مبكرًا، لا تَجلِد نفسك.
أنت لا تهرب من الحضور، بل ربما تمارس نوعًا نادرًا من الحضور الواعي.
في زمن يُمجد “البقاء حتى النهاية”، ربما نحتاج إلى إعادة النظر.
ربما نُعطي مساحة لاحترام إيقاعنا الداخلي،
وإدراك اللحظة التي اكتملت فيها التجربة بالنسبة لنا.
ليس كل من يغادر مبكرًا منسحبًا… البعض فقط يعرف متى ينتهي السحر.
بقلم: د. تقى الرزوق
أستاذة علم النفس ومناهج البحث