بقلم: د. تقى الرزوق – أستاذة علم النفس ومناهج البحث
في كل علاقة نخوضها، نحن لا نُقدّم فقط مشاعر، بل نُراهن بجزء من ذواتنا. نحب، نُشارك، نُراكم الذكريات، ثم — عاجلًا أم آجلًا — نقف عند محطة النهاية. تلك النهاية التي تُحدث فينا ما هو أكثر من الحزن، إنها اختبار حقيقي للرعاية الذاتية.
الوداع ليس مجرد حدث، بل عملية نفسية معقدة، تبدأ بالدهشة، تمر بالفراغ، وتنتهي — إذا أحسنا التعامل معها — بوعي مختلف للحياة ولأنفسنا.
لكننا، في مجتمعاتنا، لا نُمنح دائمًا المساحة الكافية لفهم هذا المسار.
عندما يهتز العقل ويتبع القلب
أثبت علم النفس العصبي أن الفقد، خصوصًا لشخص نرتبط به عاطفيًا بعمق، يخلق تغيرات حقيقية في الدماغ. الهرمونات التي ترابطت في الحب — كالأوكسيتوسين والدوبامين — تنقطع، مخلفة أعراضًا نفسية وجسدية شبيهة بأعراض الانسحاب: فقدان شهية، اضطرابات نوم، ضعف في التركيز، وأحيانًا كآبة حادة.
وهنا، تبدأ لحظة الحقيقة: كيف نعتني بأنفسنا عندما يغيب من كنا نرى أنفسنا من خلاله؟
حب لم نلمسه… لكنه لمسنا بعمق
ليست كل القصص العاطفية تبدأ بلقاء، ولا كل حب يحتاج إلى عناق ليكون صادقًا.
أحيانًا، تتلاقى الأرواح قبل أن تتلاقى الأجساد، ويُزرع الحب في المسافات، لا في الأماكن.
في إحدى القصص التي لا تزال تُروى بصوت خافت وحنين خفي، تحدّثت شابة عن علاقة عاطفية لم تتح لها الظروف أن تُترجم إلى لقاء واقعي. لم ترَ من أحبت، لم تلمس يده، لم تجلس معه وجهًا لوجه. لكن بين الرسائل الطويلة، والمكالمات الليلية، والتشارك العميق في كل ما هو حقيقي، نشأ حب استثنائي، نقي، هادئ، ودافئ.
قالت لي:
“كان يعرفني كما لم يعرفني أحد. كنت أخلع معه أقنعتي دون خوف، وكنت أسمع منه ما يجعل قلبي مطمئنًا. لم نلتقِ أبدًا، لكنني شعرت أنه الأقرب، والأكثر فهمًا لي.”
ثم جاءت النهاية — لا بسبب خطأ أو خيانة، بل لأن الحياة أحيانًا تأخذنا في طرق متباعدة، دون أن تستأذن قلوبنا.
انتهت العلاقة، لكنها تركت أثرًا لا يقل عن أثر أي حب طويل.
فقدت حبيبًا لم تره، لكنها عاشت معه مشاعر حقيقية، أعمق من أن تُقاس بالزمن أو المكان.
وهذا النوع من الفقد، رغم أن لا أحد يراه من الخارج، لكنه يوجع كما لو أن القلب انكسر أمام الجميع، لكن بصمت.
هل يجب أن نُغلق الصفحة تمامًا؟
المجتمع كثيرًا ما يروّج لفكرة “التجاوز” أو “الإغلاق التام”، لكن هل هذا واقعي؟
هل من المنطقي أن نعامل من أحببناهم بصدق كأخطاء نُريد محوها؟
ربما لا.
ربما علينا أن نحتفظ لهم بمكان آمن داخلنا. مكان لا يوجعنا كلما مررنا به، بل يذكّرنا بأننا عشنا، أحببنا، وتعلّمنا.
كما نستدعي إرث المفكرين والفنانين العظماء — من صوت سقراط إلى موسيقى باخ — دون أن نحزن على غيابهم، كذلك يمكننا أن نستدعي أثر أحبتنا في ذاكرتنا اليومية، لا لنُجدد الألم، بل لنمنحه شكلاً آخر: الامتنان.
كيف نعتني بأنفسنا بعد الفقد؟
الرعاية الذاتية لا تعني فقط النوم الكافي أو الغذاء الصحي، بل تبدأ من الصدق مع أنفسنا.
أن نسمح بالحزن دون خجل، بالبكاء دون تأنيب، بالحديث عن من غابوا دون خوف من أحكام الآخرين.
كما أن استحداث طقوس جديدة للحزن يمكن أن يكون شفاءً.
ربما نكتب رسالة لم تُرسل.
ربما نزور مكانًا شاركناه معهم.
أو ببساطة، نُحدثهم في خواطرنا وكأنهم لم يغيبوا.
الذكريات: لآلئ في أعماق النفس
أتأمل دائمًا فكرة الغوص في الذاكرة كما يغوص الغوّاص لاستخراج اللآلئ.
كل ذكرى جميلة أو مؤثرة أو حتى مؤلمة هي لؤلؤة، نخرجها ونلمّعها ونضعها في صندوق الروح.
هذه الذكريات، حين نستدعيها بوعي، لا تسحبنا إلى الوراء، بل تمدّنا بالقوة، لأنها تذكّرنا أننا قادرون على الحب، على التعلّق، وعلى إعادة بناء أنفسنا.
ختامًا…
في كل وداع، هناك بداية.
بداية لفهم جديد للحب، للذات، وللمعنى.
ليست العبرة في أن ننسى من نحب، بل في أن نتعلم كيف نحب أنفسنا بما يكفي لنواصل الحياة رغم الغياب.
العلاقات تنتهي… لكننا لا يجب أن ننتهي معها.